فصل: مطلب أكثر الموت من الأكل والشرب والحر والقر ومحبة الذكر الحسن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب إيمان المقلد والفرق بين الوثن والصنم:

وفي هذه الآية إشارة إلى أن التقليد في الدين مذموم، إذ يجب الأخذ بالاستدلال إذا كان من أهله، وإلا فيكفيه أن يقلّد من يعتقد بصحة دينه، ويكون آثما بترك التعليم، لأن العلم الضروري واجب على كل مسلم ومسلمة، وان قال صاحب بدء الأمالي في منظومته:
وإيمان المقلد ذو اعتبار ** بأنواع الدلائل كالنصال

بما يدل على اعتباره عقيدة وهو كذلك، ولكنه لا ينفي إثم عدم التعليم، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
طلب العلم فريضة على كل مسلم- ويشمل ذلك كل مسلمة- حتى أن اللّه تعالى استثنى طالب العلم من الجهاد وهو أحد أركان الدين، راجع الآية 134 من سورة التوبة في ج 3 {قالَ} لهم إبراهيم عليه السلام {أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} وحد الخبر على إرادة الجنس وسمى الأصنام أعداء وهي جمادات استعارة، لأنهم نزولها منزلة العقلاء وقال عليه السّلام {لي} تعريضا لهم لأنه أنفع في النصح من قوله عدو لكم ليكون أدعى للقبول، ولأنهم على هذا يقولون ما نصحنا إلا بما نصح نفسه وما أراد لنا إلا ما أراد لنفسه، ولو قال لكم لم يكن بتلك المثابة كما لا يخفى على بصير.
ومن هذا القبيل الآية الآتية من سورة يس المارة إذ أضاف القول فيها لنفسه وهو يريدهم.
حكي أن الشافعي رحمه اللّه واجهه رجل بشيء فقال له لو كنت بحيث أنت لا حتجت إلى أدب.
والعدوّ والصديق يجيئان بمعنى الواحد والجماعة قال تعالى: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} الآية 51 من سورة الكهف في ج 2 والصنم ما كان على صورة ابن آدم من حجر أو غيره، والوثن يطلق على كل ما يعبد من دور اللّه ناميا أو غير نام حساسا أو غير حساس، فهو أعم من الصنم، ثم استثنى مما عمم فقال: {إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ} استثناء منقطعا لعدم دخوله تحت لفظ الأعدا أي لكن رب العالمين ربي ووليي المستحق للعبادة {الَّذِي خَلَقَنِي} من العدة ووفقني لدينه القويم {فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى طريق النجاة هداية تدريجية من الولادة إلى الوفاة، أولها هدايته إلى مصّ الثدي وآخرها إلى الطريق الموصل إلى الجنة، وما بينهما إلى جلب المنافع ودفع المضار {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي} مما خلقه لي من الأرض وأنزله من السماء من غير حول لي ولا قوة {وَيَسْقِينِ} من الماء الذي ينزل من السماء فيسلكه في الأرض التي هي أصله {وَإِذا مَرِضْتُ} أسند المرض له عليه السّلام تأدبا مع ربه.

.مطلب أكثر الموت من الأكل والشرب والحر والقر ومحبة الذكر الحسن:

ذلك لأن أكثر أسباب المرض وإن كانت في الحقيقة من اللّه، إلا أنها تحدث من التفريط في الأكل والشرب وعدم الوقاية من الحر والبرد، وفيه قيل:
فإن الداء أكثر ما تراه ** يكون من الطعام أو الشراب

وقال بعض الحكماء لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم، لقالوا من التخم، وكثير من الناس لا يرون المرض إلا مرض الموت ويكون أيضا ممّا ذكر إلا القتل أو التردي أو التسمم والحرق والغرق وشبهه، وكل ذلك بتقدير اللّه تعالى وإرادته ليقع قضاؤه حيث قدره، وقد راعى عليه السّلام حسن الأدب بهذا وبغيره، حتى أنه لم يقل أمرضني، ولا آدب من الأنبياء، لأن الذي نبأهم هذّبهم {فَهُوَ يَشْفِينِ} لأن الشفاء نعمة منه والمنعم بكل النعم هو اللّه وحده، وهكذا الخلص ينسبون الخير إلى اللّه والشرّ لأنفسهم، قال الخضر عليه السّلام {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها} وقال: {فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما} ولهذا البحث صلة في تفسير الآية 78 من سورة النساء في ج 3 وكذلك مؤمنو الجن راعوا الأدب مع ربهم، راجع الآية 10 من سورة الجن المارة فما بعدها {وَالَّذِي يُمِيتُنِي} بانقضاء أجلي في الدنيا، ولا يرد إسناد الموت للّه على ما قلنا، لأن الفرق ظاهر ولأن الموت قضاء محتم لابد منه {ثُمَّ يُحْيِينِ} في الآخرة وهذا تعليم لهم بالاعتراف بالبعث بعد الموت.
{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} هي قوله لقومه حين أرادوه أن يذهب معهم إلى بيت الأوثان {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله حينما سألوه عمن كسر أصنامهم {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} وقوله للجبار حين سأله عن سارة قال أختي وأراد أخته في الدين وإلا فهي زوجته، وقد عدها خطايا بالنسبة لمقامه الشريف وقربه من ربه، وإلا فليست بخطايا وإنما هي من معاريض الكلام لدى غير الأنبياء، وقد يعدها العارفون الكاملون خطايا أيضا بالنسبة لمقامهم، لأنهم على قدم الأنبياء، وعلى حد حسنات الأبرار سيئات المقربين، وهؤلاء يسمون أمثالها خطايا تواضعا لربهم وتعظيما لأنفسهم، وتعليما للغير بطلب المغفرة عما صدر منهم، {يَوْمَ الدِّينِ} الذي يدان به الناس عما عملوه في دنياهم فيجازون عليه، روى مسلم عن عائشة قالت قلت يا رسول اللّه: ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويقري الضعيف وبطعم المسكين أكان ذلك نافعا له؟ قال لا ينفعه إنه لم يقل يوما {رب اغفر لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}.
وفي هذا كله يشير عليه السّلام إلى قومه بأنه لا يصلح للالهية إلا من يفعل هذه الافعال ولما أيس منهم باعلام اللّه تعالى إياه هجرهم ونحى نحو ما أمره به ربه وقال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} لأستعد به لخلافة الحق ورياسة الخلق {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} الأنبياء قبلي في درجتهم ومنزلتهم عندك {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} من بعدي بأن أذكر لديهم بخير من ثناء حسن وحسن سمعة، وقد أجيبت دعوته لأن أهل الأديان يثنون عليه خيرا ويعظمونه وكل أمة تحبّه، وذكر اللسان بدل القول لأنه يكون به ولا حاجة لتقدير مضاف أي صاحب لسان كما قاله بعض المفسرين، لأن الثناء يكون باللسان وغيره قال:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ** يدي ولساني والضمير المحجّبا

والجزء يطلق على الكل: ويحتمل أن يراد بالآخرين أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلم، لأنه من ولده ويدعو الناس إلى ملته ودينه المشار اليه في قوله تعالى {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}، ويستدل من هذه الآية ان لا بأس ان يحب الرجل الثناء عليه، لأن فيه فائدة لاسيما بعد الموت، إذ تجود عليه رحمات ربه بترحم الناس عليه، عند ذكر أوصافه وأفعاله الممدوحة، الا انه لا يخفى ان الأمور بمقاصدها، وانظر قول صلّى اللّه عليه وسلم من أحب ان يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار، مع ورود الخبر عنه صلّى اللّه عليه وسلم قوموا لسيدكم، وقد قيد العلماء القيام لأهل الفضل والأكابر، ولكن الأعمال بالنيّات فعلى المتأدب أن يقوم لمن هو أهل للقيام، وعلى من يقام له أن لا يحب ذلك {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} الباقين فيها كما يقيده معنى ورثة لأن البقاء فيها هو السعادة الكبرى والنعمة العظمى {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ} طريق الهدى.

.مطلب عدم المغفرة للمشرك وعدم نفع المال والولد مع الكفر:

وإنما دعا له بالمغفرة، لأنه كان وعده بالإيمان به وكان يرجو منه ذلك، قال تعالى: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ} وفيها دليل على جواز الاستغفار للكفار ماداموا على كفرهم خلافا لما نقله الشهاب في شرح مسلم النووي من أن كونه عز وجل لا يغفر الشرك مخصص بهذه الأمة، وكان قبلهم قد يغفر لمنافاته صراحة هذه الآية، وعدم الغفران للمشركين عام في كل أمة، قال تعالى: {إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى} الآيتين من آخر سورة الأعلى المارة أي ان هذا الذي هو في القرآن هو في صحف إبراهيم وموسى، وفيه ما لم يكن فيها أما ما فيها فكله فيه وزيادة {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} الناس من قبورهم لان ذلك اليوم {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ} عند مالكه ولا ينفع عنده كل شيء واقتصر على المال والبنين لانهما معظم المحاسن والزينة والرفاه، راجع الآية 45 من سورة الكهف في ج 2 {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من الشك فيه والشرك به لا الذنوب، إذ لا يسلم منها أحد إلا ما ندر عدا الأنبياء بعد النبوة فإنه مقطوع بعصمتهم من كل ذنب حتى في حالة السهو والخطأ والنسيان والغلط راجع الآية 122 من سورة طه المارة تجد تفسير ما يتعلق بهذا البحث، وقد أخبر اللّه عنه بأنه كان ذلك الرجل لقوله جل قوله: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وخصّ القلب لأن بقية الجوارح تبع له، تصلح بصلاحه وتفسد بفساده، قال صلّى اللّه عليه وسلم في حديث طويل صحيح: ألا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.
وأخرج احمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال: لما نزلت {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} قال بعض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لو علمنا أي المال خيرا اتخذناه، فقال صلّى اللّه عليه وسلم أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه.
وفي هذه الآية دلالة على ان طلب المغفرة له حال لا كما قال بعض المفسرين بعد موته، لأنه مات كافرا ولا يجوز الاستغفار للكافر كما مرّ وفيها اشارة أخرى إلى أنه لا ينفع المال صاحبه، ولو صرفه في وجوه البر إذا كان صاحبه شاكا أو كافرا، ولا ينفع الولد والده ولو كان صالحا إذا كان أبوه شاكا أو كافرا، فصلاح المال والولد ينفع عند اللّه إذا كان صاحبهما مؤمنا به، والا لا، والى هنا انتهى كلام الخليل عليه السّلام، خلافا لابن عطية القائل إن هذه الآيات منقطعة عن كلامه مخالفة سياق الآيات، قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} المعاصي حيث يروونها أمامهم، لأنها تقرب منهم في ذلك اليوم، ويتيقنون انهم محشورون إليها، لأن أهل الموقف حينما يقول اللّه تعالى {وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} الآية 59 من سورة يس المارة تنقسم إلى قسمين فأهل موقف السعادة تتراءى لهم الجنة، وأهل موقف الشقاوة تظهر لهم النار {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ} الذين أغواهم هواهم عن طريق الحق، وفي الآية إشارة إلى أن رحمة اللّه تسبق غضبه، كما جاء في الحديث، لأن إظهار جهنم لا يستلزم قربها، وتقريب الجنة هو تقريبها من داخليها.
{وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} في دنياكم وتزعمون أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم، وأنهم يقربونكم من اللّه في هذا الموقف، هاتوهم وادعوهم لنرى {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} كما تقولون ويدفعون عنكم العذاب {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} لأنفسهم ليدرأوا عنها العذاب؟ والجواب محذوف يفهم من المقام لأن السؤال سؤال توبيخ وتقريع، أي لا ينصرونكم ولا ينصرون أنفسهم وكلكم معذب، قال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيها} فقذفوا وطرحوا في الجحيم المذكورة منكوسين وهو تكرير كب مبالغة في الطرح كدمدم مبالغة في الدم أي الذقن وعسعس مبالغة في العس أي الظلمة {هُمْ وَالْغاوُونَ} من الإنس والجن المعبودون والعابدون جميعا لأنهم جنود إبليس ولهذا عطف عليه {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} من أتباعه وأنصاره ومواليهما، لأن من يعبد غير اللّه فهو عابد الشيطان، وإن عزيزا والمسيح والملائكة مبرءون من ذلك، لأنهم لم يدّعوا الإلهية ولم يأمروا بها، ولم يرضوا فيها، ولذلك فإنهم مبرءون مما نسب إليهم من العبادة، كما أنهم قد تبرأوا منها ومنهم.